المقاولة ..من الادب التركي
لا اخفي عليكم انني رجل هادئ الطبع اكثر الاحيان غير انني اتهيج بين حين وآخر لأتفه الاسباب ، وفي ثورة تلك النوبات المزعجة ، اخلق مشاكل عويصة معقدة ، يعود ضرر تسع وتسعين بالمئة منها على نفسي ، من ذلك ان جرت لي هذه الحادثة التي سأسردها عليكم الان .
في الشتاء الماضي حصل بيني وبين زوجتي خلاف تفاقم الى حد مدهش لأمر تافه جدا ، ذلك ان زوجتي خاطت زرا من ازرار قميصي مقلوبا عن هيئته ،فانطلق لساني عليها من عقاله ، ومن سوء الحظ ان حسيبة لم تكن من النوع الذي يحسن السكوت في مثل هذه المواقف ، اذ سرعان ما ردت على اقوالي بأفصح منها ، فاشتطت غضبا وخرجت من فمي كلمة رهيبة ، اذ قلت لزوجتي العزيزة : انت طالق.. اخرجي من داري ،
لكن حسيبة لم تسقط مغمى عليها ، ولم تتهافت على قدميّ متوسلة ، بل قالت بلهجتها المعتادة : انني ممتنة ومسرورة من فراقك ، وعليك ترك الدار لأنني انا صاحبتها .
نهضت على عجل وجمعت حقيبتي وخرجت ،
ولكني قبل ان ابلغ منعطف الزقاق ، ندمت على ما بدر مني ، فقد كانت حركتي طائشة ورديئة ، فما يليق بالشهامة والرجولة ان تترك امرأة ثرية كزوجتي بهذه السهولة ،
رأيت ان من الاوفق ان اعود على عجل وارمم ما حدث قبل ان يستفحل الشق ، فعدت وطرقت الباب ،
فاطلت حسيبة من النافذة وقالت : من هذا ؟ وماذا تريد ؟! ،
فقلت اهدئ من روعها : الظاهر ان الغضب قد اثر عليك كما اثر عليّ ، أفلا تعرفين زوجك يا زوجتي العزيزة ؟
فقالت بلهجة نافرة : واي زوج هذا ؟
انني امرأة مطلّقة يا رجل ، وليست لك بي صلة!
فهيا اذهب لشأنك .. ثم اغلقت النافذة ، وذهبت كل توسلاتي ووعودي ادراج الرياح .
أشغلت حسيبة بالي خمسة عشر يوما ، واخيرا ارسلت لي رسالة مع احد اقاربها تقول : اني مستعدة للزواج منك ثانية ، ولكن بشرط واحد وهو ان توقع الاتفاقية المرسلة اليك ، والا فلا تبحث عني بالمرة.
دعكت عيني المرتعشة من الحيرة والغضب ، وقرات هذه الاتفاقية :
(( ان جعل الاعمال الخارجية التي هي اشبه باللعب منها بالعمل وقفا على الرجل وحده ، وترك الاعمال البيتية كلها للمرأة وحدها ، ظلم اجتماعي لا يحتمل ،وعليه فاني اعتبارا من اعادة زواجي من زوجتي السابقة ، اتعهد بان اقوم بنزح الماء من البئر وكنس الدار والغرف وتنظيف الصحون وغسلها )) .
الحق انني ترددت بادئ ذي بدء عن التوقيع عليها ، ولكني ذكرت غرائب طبائع النساء وسرعة تفشي وتبدل الموضات بينهن ، فحسبت هذه المقاولة نوعا من الموضة الجديدة ، وستنساها حسيبة بعد بضعة ايام ، فأخذت القلم ووقعت على الاتفاقية بإمضائي المعمم الكبير ، وبعد يومين جرى عقد زواجنا من جديد .
لم يكن شهر العسل من زواجنا الثاني كأوله ، لان شروط الاتفاقية كانت قاسية ، وقد شددت واصرت حسيبة على تطبيقها ، فكان لزاما عليّ ان ارتدي المئزر واكنس الغرف ، واخرج الماء من البئر كفتاة شغول وانا بين حانق وساخر من شأني .
مضى اسبوع كامل على ذلك وانا في حالة يائسة ، فقد كانت زوجتي تبدو غير متساهلة بشان تطبيق كل فقرات الاتفاقية المتعسفة ، ولم يكن بدّ من مفاتحتها بالحقيقة ، فقلت لها ذات يوم :
(( اذا استمر الحال على هذا المنوال فلن اعيش اكثر من اسبوع آخر ، فأرجوك ان تقلعي عن هذه الفكرة الطائشة ، واذكري انني اذا متّ ، فستبقين ارملة منسية من بعدي )) .
ولكن حسيبة لم تكن من اللواتي تفهم خطابا او تعي رجاء او تتنازل عن خادم مجاني ارتبط معها بعهد وثيق ، حتى جاء يوم وجدت فيه بصيصا من الرجاء بقرب الخلاص .
كنت انقل الماء من البئر فسقط الدلو فيه قضاء وقدرا ، وكانت زوجتي على مشهد مما وقع ، فجاءت ثائرة حانقة وقالت : (( يا عديم الفائدة ،انك لا تحسن حتى مثل هذه الاعمال التافهة )) ، فازداد حنقي عليها ، وثرت بوجهها وقلت : (( ماذا تحسبينني ؟ أأنا خادمك حقا ؟ أأنا خادم حقيقي ؟ )) ،
فردت على ذلك بابلغ منها ، ودار بيننا كلام عنيف ، اضطرت حسيبة بعد برهة ان تأتي بكلابات حديدية وتصيح بوجهي امرة : (( هيا اخرجه )) ، واهتاج بي عصب العناد ، فقلت : (( لا ، فليس في الاتفاقية فقرة تنص على اخراج الدلو الذي يقع في البئر ))، واصررت ان ابقى حريصا انا الاخر على تطبيق نصوص المقاولة ، فاضطرت هي الى اخراجه بنفسها بعد جهد جهيد وتعب ثلاث ساعات متصلة ،
واستقرت هذه الفكرة اللطيفة في راسي ، فكلما جاء دور اخراج الماء من البئر ، القيت بالدلو في البئر ، ودعوتها الى اخراجه استنادا الى شروط الاتفاقية ، واخيرا استطعت ان املأ قلبها كمدا ومللا فجاءتني في يوم من الايام تمشي على كبرياء لتخفي اندحارها ، وقالت : (( اني اعفيتك من مهمة اخراج الماء من البئر ! )) ، حسنا جدا ، لقد اجتزت احدى الموانع الكبرى من المقاولة الجائرة ،ويجب التخلص من الباقيات … الغسل وكنس الغرف .
وتفتقت فكرة جديدة في راسي ، فاذا جاء دور الكنس ، جمعت اثاث الغرف وجعلت منها كومة كبيرة ، غير ملتفت الى ما يتحطم من الكؤوس والاواني الجميلة والخزفيات التي تعتز بها حسيبة كثيرا ، فاذا جاءت تطلب اعادة كل شئ الى مكانه ، قلت لها باستهزاء : (( ليس في الاتفاقية ما يرغمني على تنضيد الاشياء بعد الكنس)) ،
وهكذا استطعت ان اشطب فقرة الكنس ايضا من المقاولة.
ثم جاء دور غسل الصحون ، كانت حسيبة بعد ان اكملت زينتها والقت عليّ ما شاءت من الاوامر ، قد اخذت مظلتها وذهبت بخيلاء تتأود في نزهة الى الشارع ، الا اني استطعت ان اضع لذلك الغرور الطائش والزهو حدا ، فلم تكد تأتي بعد حين حتى وجدت بانتظارها مشهدا من اروع واحزن المناظر ، ابصرتني واقفا بمئزري امام الدار اغسل بعض الصحون ، غير مبال بما يتحطم منها او ما تلغ به القطط والكلاب ،وقد اجتمع حولي لفيف من الاطفال يضحكون ويمرحون ، ووقف الحارس ذو اللحية الطويلة يقول مستهزئا : (( اقسم بانه ابرع في الغسل من زوجتي )) ، بينما كانت متسولة عجوز تقول متألمة : (( عمى" لعيني زوجتك )) .
رات حسيبة كل هذه المشاهد ، وسمعت ما دار من كلام العابرين ، فتأثرت اشد التأثر ، فجاءت اليّ مؤنبة معاتبة: (( ما هذا يا مراد ؟أفلا تخجل من نفسك ؟ )) ،
فقلت وانا اصطنع الدهشة : (( وما العيب في الامر ؟ وهل في العمل الاعتيادي ما يعيب ؟ )) ،
فقالت : (( طبعا .. انك بهذا العمل تجعلني اضحوكة !)) ،
فقلت : (( اذا كان هذا مخجلا ، فمعنى ذلك ان العيب يقع عليك انت ،لانني اقوم بواجبك ظلما وعدوانا )) ،
فقالت ساخطة : (( الم تر محلا اخر للعمل ؟))،
فقلت لها ببرود : (( اني اغسل كيفما اشاء وحيث اشاء ، فهل في مقاولتك ما يعيّن محل الغسل والخدمة ؟ اني اقوم بعملي حسب حريتي ورغبتي )) .
قالت بادية الحزن: (( اجمع هذه الاشياء ، وارجع بها الى البيت على الاقل ))،
واعتراني زهو مفاجئ لانكسارها ، فمسحت يدي بذيل مئزري ، وقلت بأعصاب هادئة : (( لقد غسلت الصحون ، وقمت بواجبي ، اما ادخالها فلا يعود لي ،وها هي اتفاقيتك ، أفتجدين فيها مثل هذا الامر ؟ )) ،
عادت زوجتي بالصحون عجلة متألمة واخذت المقاولة بين اسنانها ومزقتها اربا اربا في حين كنت اضحك من النتيجة، فقد بلغت حريتي المسلوبة .
وبالطبع لم تكلمني حسيبة بضع ساعات ، وكان اليأس يأكل صدرها ويبدو على وجهها ، وفي منتصف الليل مرت بنوبة اخرى من البكاء ، فاشفقت عليها، فعدت الى جعبة الكلمات المعسولة والالفاظ الرقيقة اهدئ من اعصابها الثائرة ، واعيد الى نفسها الصفاء .